تراشقت الأطراف بتهم الردة والكفر ، حتى ضاقت بالحياد الأرض بما رحبت ، فالكل براءة والكل متهم ، فحضر الشهود إلا شاهد العقل ، و استحضرت الحجج إلا حجة الإنصاف ، إيغالاً في الابتعاد عن عقلنة جدالنا ، و تنظيم اختلافاتنا ، و ترتيب درجات سلم أولوياتنا ، و تحسين نياتنا و إراداتنا ، رغم أن قصدنا جميعاً طاعة الله و رسوله ، و غايتنا المطلوبة واحدة ، وهي محاولة الوصول إلى حكم الله ، وطريقتنا المسلوكة واحدة ، و هي الاعتماد على الكتاب والسنة ومقرراتهما .
ما يحصل اليوم في الثورة السورية من اقتتال بين تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام وفصائل المعارضة المسلحة ، و الذي نجم عنه استباحة قتل الآخر بتهمة الردة و الكفر لمجرد رفض أو مخالفة رأي أو مشروع سياسي أو بيعة ، يقودنا هذا إلى قضية ” الإكراه ” .
يقول الله تعالى [ لا إكراه في الدين ] البقرة 256 ، إذا أن الآية تقرر قضية كلية قاطعة ، و حقيقة جلية ساطعة ، وهي أن الدين لا يكون و لا يمكن أن يكون بإكراه ، فالدين و الإكراه لا يمكن اجتماعهما ، فمتى ثبت الإكراه بطل الدين ، الإكراه لا ينتج ديناً ، وإنما ينتج نفاقاً و كذباً و خداعاً وهي كلها صفات باطلة و ممقوتة في الشرع ، ولا يترتب عليها إلا الخزي في الدنيا و الآخرة .
كما أن الإكراه لا ينشئ ديناً و لا إيماناً ، فإنه كذلك لا ينشئ كفراً و لا ردة ، فالمكره على الكفر ليس بكافر و المكره على الردة ليس بمرتد ، و كذلك المكره على الإيمان ليس بمؤمن و المكره على الإسلام ليس بمسلم ، و لن يكون أحد مؤمناً مسلماً إلا بالرضا ” رضيت بالله رباً .، و بالإسلام ديناً ، و بمحمد نبياً و رسولاً ” .
إن الدين هداية اختيارية للناس تعرض عليهم مؤيدة بالآيات و البينات ، و رسل الله لم يبعثوا جبارين و لا مسيطرين ، و إنما بعثوا مبشرين و منذرين ، فقال الله تعالى [ و ما نرسل المرسلين إلا مبشرين و منذرين ] الكهف 56 ، [ فذكر إنما أنت مذكر ، لست عليهم بمسيطر ] الغاشية 21 – 22 .
و لو كان للإكراه أن يتدخل في الدين و يدُخل الناس فيه ، أو يبقيهم عليه لكان هو الإكراه الصادر عن الله عز وجل ، فهو سبحانه وحده قادر على الإكراه الحقيقي و المجدي ، الذي يجعل الكافر مؤمناً و المشرك موحداً و الكتابي مسلماً و يجعل الناس مؤمنين مسلمين .، و لكنه سبحانه بحكمته هو القائل [ لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ] يونس 99 .
فحكمة الله التي لم تأخذ بالإكراه في الدين حتى في صورة كونه ممكناً ومجدياً و هادياً ، لا يمكن أن تقره حيث لا ينتج سوى الكذب و النفاق و كراهية الإسلام و أهله .
فالإكراه سوس ينخر العقائد ، إذ القهر على الاقتناع بمبدأ يدفع البشر إلى النفاق ، لذلك ترك الله أمر الإيمان للإنسان دون إكراه منه تعالى و لا إجبار ، حتى يذهب الإنسان إلى الإيمان بـ ” قلب عاشق ” ، لأن الله تعالى لا يريد ” أعناق عبيد ” إنما يريد ” قلوب عباد ” .
و إذا كان الإكراه باطلاً في الإيمان و العقيدة ، فأنه باطلاً أيضاً في التصرفات و المعاملات و الحقوق المادية و الدنيوية ، حيث إنه لا ينشئ زواجاً و لا طلاقاً ، ولا بيعاً ولا بيعةً ، و عليه فإن أي إكراه على رأي أو مشروع أو بيعة لشخص أو جماعة ، و لو كان يحمل صفة الإسلام , بحجة إقامة شرع الله من وجهة نظره فهو باطلاً .
و اعلم إن رأيت إكراهاً على مبدأ أو إرهاباً على رأي ، فأن صاحب هذا المبدأ غبر مقتنع به ، و أن المبدأ ذاته مؤسس على غبر حجة و برهان ، و إلا فيما الإكراه و القهر نشراً له و حفاظاً عليه ..؟!
عبد القادر الطائي
كاتب سوري